الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
گان ياما كان... - بسام شمس الدين
الساعة 14:44 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


على نحو مفاجئ سطع نجم "الفخري" في شهر يوليو من العام 2011م، حدث ذلك على حين غرة، في ظل الصراع السياسي ونزيف الدماء، وصراخ آلاف الشرفاء والهمجيين على حد سواء، كان أميناً عاماً لحزب يساري لا يكاد يذكر لصغره، ويقتات من عمله كأستاذ لمادة التاريخ في إحدى الجامعات المحلية، وعلى ما يتبقى من الميزانية السنوية الصغيرة التي تدفعها الحكومة مقابل إيجار مقر الحزب، ونثريات أخرى، وأحياناً تكفي لشراء قنينات من النبيذ المحلي الرديء للمجموعة الصغيرة بما فيهم "شرهان" صحفي الجريدة الناطقة باسم الحزب، ومهرج المقر "عامر" الذي يشتهر بنكاته التي تتحول بفعل البلى وعدم التجديد إلى كابوس مريع في نفوس السامعين المعتادين، وتلتقي هذه المجموعة البائسة في المقر يجترون الذكريات القديمة ماضغين أغصان القات، ومنفقين أيام متشابهة من حياتهم تفتقر إلى التجديد والمتغيرات، يبدو الفخري بشاربه الكث وجسده الضخم فريداً في المجموعة الهزيلة، متجهماً مثل شخصية تاريخية رأيتها في مسلسل سوري عن عهود الباشاوات الأتراك، وبالكاد ينطق كلمة أو كلمتين لثقل لسانه وشروده، وطالما يتصور الناس الذين لا يعرفونه عن كثب بأنه وقور وعميق وبعيد النظر، فهناك صنف من البشر يعيشون مضربين عن الكلام الفارغ، ولا يتكلمون إلا عند الضرورة القصوى، وكما لو كانوا غير راضين عما يدور في هذا العالم. ولكنه رجل سياسي، وقلما نجد شخصاً يشتغل في مجال السياسة غير ثرثار، إلا أن رجلنا غير الآخرين في هذا الجانب، ولا أحد يتكهن ما ينطوي في خلده من أشجان، ولا أي نوع من الأفكار التي يحملها، ومازال هناك أشخاص ـ وهو ليس منهم ـ مفعمين بالخجل، والبعض ـ وهو أحدهم ـ يتسترون خلف الغموض لإخفاء جهلهم بكثير من الأشياء، وهذا قد يدفعهم للعيش في الظل بعيداً عن الأضواء والسياسة، ومهما كان السبب، فقد أصبح هذا الشخص الذي نتحدث عنه سياسياً صامتاً، ولعل هذا ما جعل منه محط أنظار الحكومة التي جاءت عقب ثورة 15 يناير، حيث أراد رموز الثورة التقليديون أن يغذوا الزمن الجديد بمزيد من الصمت والغموض، وكنت أتحين الفرص لأصرخ في وجوه الجميع محتجاً على بقاء الوضع في حاله، إذ لم يتغير شيء سوى ظهور بعض الأغنيات الوطنية التي تمجد الشعب، أما قوى اليسار فقد انخرطت تحت عباءة قوى اليمين، وغضت الطرف عن المبادئ والأفكار التقدمية التي تغص بها أدبياتها ومراجعها، وكان الفخري من رواد اليسار الخانعين، ولم أجد بداً من التفكير في اعتقالهم وسط مقال أدبي أو قصة، وصرت أبيت النية على ذلك، وأشيعها بين أصدقائي ومعارفي الذين أثق بهم، لكني لم أنملك الحافز الذي يحثني على كتابة شيء أدبي، واستمر الحال كذلك حتى دعاني صديق صحفي للذهاب إلى مقر الحزب بدعوى سماع طرف المهرج عامر، وقال لي من قبيل تحفيزي على الذهاب:
ـ أنت كاتب، وقد يلهمك هذا المجلس العجيب لتكتب شيئاً مميزاً.
ـ هل أنت متأكد من وجود الحافز الذي أبحث عنه؟ سألت صديقي.
ـ بكل تأكيد.. إنهم أشخاص ممن نجدهم في القصص والأساطير الشعبية.
وذهبنا عميقاً في الحارات بسيارة أجرة، واشتد غضب صاحبها وهو يتوغل وسط أحياء شعبية رديئة، كانت الأوضاع مضطربة والحوادث كثيرة في العاصمة صنعاء بسبب الانفلات الأمني المواكب للاحتجاجات الشعبية من جهة، وبفعل الصراع السياسي من جهة أخرى، حتى صار الإحباط مسيطراً على النفوس، ونذر الشؤم ساطعة من كل مكان، ذلك أن الصفقة السياسية التي حدثت بين الأحزاب اليمينية أعاقت التغيير المنشود، وأوقفت صوت الثوار الهادر، وفي وقت سابق تحالفت الأحزاب اليسارية مع حزب الإخوان الإسلامي ودارت في فلكه، وجعل هذا الحزب ذو الفكر الديني يوكل أمر هذا البلد إلى الله، ونصح منظرو الجناح المتطرف فيه الجماهير بالصلاة في أوقاتها، والدعاء أن تتحسن الظروف، وعدم سب الصحابة والأنبياء، ولكن الله لم يكن مسؤولاً عن هذا الشعب فقط، وأوشك أن يعنفهم بشدة لأنهم يرمون إليه مشاكلهم، ولا يدعون الحياة تمشي كما أرادها، وطارت هذه الأفكار الغريبة من رأسي حين صاح السائق بتوتر:
ـ لا حاجة فلي بالمال إن كانت سيارتي ستنهب أو تتحطم في آخر الأمر.
أجاب صديقي:
ـ لكننا في وضح النهار!
ـ الدول الهشة تسقط في أي وقت.
فوجئت بما سمعت من سائق الأجرة، وإثر حديثه المتشائم صرت أتأمل البيوت الصغيرة والأزقة الضيقة والعابرين المرهقين الذين لا يوحون بأي خطر، إنهم أناس مثلنا يدبون وراء أعمالهم كالنمل، شاردين مغمومين، لا يعيروننا انتباهاً، وأخيراً وقفنا أمام مقر الحزب، ولا داعي لسرد تفاصيل غير ضرورية عن شكله ونمط بنائه، لأن البناء غير ملفت، ولا يختلف شيءٌ فيه عن المنازل المحيطة به، مما يوحي إلى أنه حزب البسطاء، لكنه لم يعد كذلك، وليس لديه أي مقاعد في البرلمان، وحسبه أن يجمع تلك المجموعة البائسة كل نهار، بدا الطابق الأرضي مكتظاً بالأشياء الفائضة عن الحاجة، صحف سياسية على شكل رزم متراكمة مربوطة بسيور خاصة، كتب مهملة من التراث الاشتراكي الذي كان في يوم ما يشكل عصب الحزب الفكري، ويبدو أنهم تخلوا عنها بعد تحالفهم مع حزب الإخوان ذي الفكر المستوحى من كتب قدماء الفقهاء، وأوصاني صديقي بالتزام الصمت عند الدخول، ولا داعي لطقوس المصافحة، لأن عامر يلقي النكات على المستمعين، وبالفعل كان يرغي بطرف تثير الألم، وكان يعيد هذه العبارة بأشكال وصور مختلفة في ثنايا حديثه..
" عندما كنت أشغل مدير مكتب الوزيرة "سميرة" في الثمانينيات جاء فلان الفلاني و...
بدا الفخري الأمين المساعد للحزب في قلب المجلس مقعياً، يلوك القات متأملاً الفراغ ببرود عجيب، ليس في نظراته أي معنى، إلى جانبه ستة رجال ثامنهم المهرج عامر، الذي يتندر وهم يعلقون بين فينة وأخرى تعليقلت قصيرة، ويتحدثون إلى بعضهم دون أن يعيرونا أي اهتمام، وينظر إلي صديقي متبسماً مستشفاً تعبيرات وجهي، وكأنه يود أن يكسر شعور الغربة التي أشعر بها، وبدت صورة الرجل مؤسس الحزب على الجدار بون شارب، وعلى وجهه تلك الهالة الليبرالية التي عمل من أجلها طوال حياته، ونظرة مزدوجة من ذكاء وجرأة، ولا يوجد رجل في بلادنا لا يجهله، لأنه عاش في أوساط الناس، منادياً بالأفكار الليبرالية التي انتشرت في عهده، واشتغل في العمل السياسي من خارج الحكومة رافضاً تقليده أي منصب بارز، حتى اغتيل على يد متطرف ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، وله قصص يتشدق بها عامر في كل مناسبة، ويكون حاضراً فيها بشكل أو بآخر، ويشير إلى أن الراحل كان يهتم به، وينصحه أن يقرأ كتاب كذا وكذا، وأن يفعل هذا ويدع فعل ذاك، نظرت إلى الأمين العام الماثل أمامي لاستشف الفرق بين الصورتين، الصورة الجامدة على الجدار والحية الماثلة أمامي، حاولت أن أقارن بينهما، ذاك عميق الغور تفصح ملامحه وكتاباته على سحر عجيب، وهذا فاتر القسمات منعدم الحماس، لا تحمل ملامحه أي معانٍ واضحة، وكما يقال فإن الصور تحمل جزءاً من تاريخها، ويظن البعض أن في تعبيرات الوجوه معاني يمكن أن تروى أو تؤلف، ولعل ذلك أوحى للمنجمين والعرافين فكرة استنطاق صور وحظوظ الناس الذين يؤمنون بهم، لكني لم أكن عرافاً لأستنطق صورته الخاملة، ولا أدري أحياناً ما هو الفرق بين العراف والكاتب، فكلاهما يشط عن الواقع ويقرأ تعبيرات الوجوه، وكانت صورة عامر قد تبلورت في ذهني بشكل سيء، فبدا ماكراً ولئيماً، يجبر الناس على الإصغاء إلى نكاته، والدليل على ذلك أنه ظل يثرثر حتى ثقل لسانه وانطفأ من تلقاء نفسه متأثراً بخدر القات، وهنا واتت الفرصة صديقي ليقول مخاطباً "الفخري" باهتمام:
ـ أستاذ، هذا صديقي بدر شريف قاص وروائي أيضاً.
نظر إلي بفتور وومض في عينيه ألق خبيث وقال:
ـ أهلاً وسهلاً.
وخيم الصمت، وكان على صديقي أن ينقذ الموقف ويدفع عجلة الحوار إلى الأمام..
ـ لديه ثلاث روايات، ومجموعتا قصص، إنه يكتب عبارات رقيقة وسط هذا الجو الملبد بغبار التفجيرات والصراع، هل تصدق ذلك؟
هز رأسه رافعاً حاجبيه، وعلت في وجهه مسحة من اللامبالاة وشيءٌ من الضيق، وأغنى ذلك عن الإجابة، وكأنه يقول: وإن يكن، أنا لا أعرفه، لم أقرأ أياً من أعماله، لا شأن لي بالمثقفين، دعاني وشأني.. أحرجني ذلك كثيراً، بل جرحني في الصميم، كيف لشخص وهو أمين حزب تقدمي يعتبر نفسه من الصفوة لا يأبه بقاص وروائي في بلده، بل لقد نظر إلي بتشفٍ ولؤم، وبدا وكأنه يعرف أني قرأت ملامحه جيداً، وتطفلت على خفايا أفكاره الضحلة، ليس غبياً حينما يتعلق الأمر بالتجسس على أفكاره، وربما رمقني وأنا أقارن بينه وبين صورة الأمين المؤسس على الجدار، لا يجب أن نحتقر أي شيءٍ مهما بدا حقيراً، فالمظاهر قد تكون خادعة في بعض الأحيان، وما يبدو لنا أنه سراب قد يكون فعلاً ماء، كانت البلد آنذاك تمر بأزمة الثورة، ونحن أنفسنا كنا نمر بأزمات كثيرة مع أنفسنا ومع الآخرين، لقد أمسى المثقفون على هامش المجتمع، يصارعون لكسب لقمة العيش، ويتهافتون كالذباب على موائد السياسيين، وهذا يجعلني أغفر لأمين الحزب جهله بما نكتب، ناهيك أني لم أكن أختلط بالسياسيين والإعلاميين، وتلك هي المرة الأولى التي أدخل فيها مقر حزب. وعدت من تلك الزيارة بحافز ضئيل للكتابة.
بعد أيام فوجئت بصديقي يستوضحني عن خبر سمعه، وهو أن ذلك الأمين العام الصامت الخبيث أمسى وزيراً للثقافة، وكانت تلك حصة حزبه من حكومة الثورة، إذ تقاسمت الأحزاب الحقائب الوزارية على حسب وزنها السياسي في الشارع، واتضح لنا أن الثقافة في نظر الحكومة الجديدة شيء هامشي، بدليل اختيارهم هذا السياسي الهامشي الذي لا يفقه شيئاً عن الأدب، ولا وزن له في الساحة الثقافية، وسرعان ما تسلَّم الفخري وزارة الثقافة التي أعمل فيها، وهو مندهش ونحن كذلك دهشنا، إذ لم يتوقع أحد ـ حتى هو نفسه ـ أن ينال هذا المنصب، وانتقل أفراد ذلك المجلس العجيب إلى الوزارة، فأصبح المهرج عامر مدير مكتب الفخري، وشرهان والبقية مستشارين، وانتصب الحارس أمام مكتب الوزير يذود المعاملين والموظفين، ويسمح بدخول الفتيات الحسناوات المجهولات، وبات المهرج عامر متجهماً يدير المكتب على نحو غريب، وهجر النكات وظهر بوقار راهب ووقاحة شيطان، ولمع نجم صديقته "زهرة" الفنانة ، واستمرت تمشي في ممرات الوزارة كطاووس قبيح، تدخل وتخرج إلى مكتب الوزير كلما عن لها ذلك، وهذا ديدنها طوال الوقت، حتى سميت وزارتنا سمسرة زهرة، وبتنا نخجل من الانتساب إليها، وطالما أولع الوزير الفخري بالسفر ملقياً مهامه على نائبه الذي لا يهش ولا ينش كما يقال، وصار الموظفون يطلقون عليه لقب السبع المدهش، وفي هذه السنة المشؤومة حلت بي الأقدار، مات والدي دون أن يواسيني أحد في الوزارة، وهجرت قريتي وعائلتي إلى المدينة، وعشت على نحو مؤسف، بينما ظل باب الوزير الفخري موصداً في وجهي، في الوقت الذي ازداد شاربه كثافة، وظهر ثرياً يوزع المال على من يشاء، مثل إله غير محايد ذي مزاج سيء، واستمرت تلاحقني نظراته القاسية اللئيمة، وكلما مر بي يصرف نظره كما لو كنت عدماً، ولكني لحسن الحظ لم أهلع أو أخور، كما لم تتزعزع ثقتي بنفسي وبما اكتب، بل ولسوء حظه لم يدرك حتى وقت متأخر أني أسجل قصته، وأنوي أن اعتقله بين سطورها إلى الأبد، وقد حال الحارس الفظ دون أن ألقاه، وعمد المهرج عامر إلى إقصائي، ومر عامان من الوهم الثقافي، وفي كل يوم أرى مجموعته تغرق في نشوة المناصب الجديدة والانتصارات الزائفة، حتى أعلن عن تشكيل حكومة جديدة، ورأيتهم وهم يعانون بشدة من أفول مجدهم، وانفضاض المتملقين من حولهم، ويعودون إلى ذلك المجلس العجيب، ما أصعب أن يجد المتباهون أنفسهم فاقدين امتياز النظر إلى الآخرين من علٍ، ولا شيء يضاهي مرارة أن يجدوا أنفسهم حبيس عمق قصة أو قصيدة أو صدر محروق، وأخذت النظرات اللئيمة المتشفية تلاحق الفخري ومجموعته، وصارت تحبك ضدهم عشرات الطرف والقصص والأخبار المزرية، وباتوا حكاية سندونها بأقلامنا ونرويها لأحفادنا، إذ قدر لنا أن نعيش ونصبح أجداداً متقاعدين عن العمل، وسترويها الأمهات لأطفالهن قبل النوم.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً